بقلم: رائد شرف الدين ـ النائب الأول لحاكم مصرف لبنان
(من كلمة له في المنتدى الخامس لمدراء الموارد البشريّة والتدريب ـ اتحاد المصارف العربية
إدارة وتطوير الموارد البشريّة والتدريب في عالم متغير مشاكل وحلول في ٢٩تموز ٢٠١٠، فاريا ـ لبنان.)
موارد بشريّة أم طاقات أم قدرات؟
يتطور مفهوم قوّة العمل، إن لناحية النظام الذي ينتمي إليه، أو لناحية طبيعته واستخداماته ومجاله. في العام 6771، حدَّد آدم سميث عناصر رأس المال الثابت بأربعة: الآلات والمعدات للتجارة، المباني، الأراضي والعمالة رابطاً الطاقة الإنتاجية للعامل بمفهوم تقسيم العمل Division of Labor.
مطلع الثورة الصناعية، ساد ثلاثي الأرض والعمــل ورأس المال. وتطوّر مفهوم العمالة مع كارل ماركس ومن ثـم مع هنري فـورد وحديثـاً، كثـر استخــدام الـ 3M of Technology أي Man, Machine, Material. والملاحظ أنّ عنصر العمل يدخل كمكوِّنٍ اقتصادي أو تقني بالتلازم مع عناصر الإنتاج الأخرى كالأرض والموارد الطبيعية والمال.وفي المسائل الإدارية والتنظيمية، تم استخدام «الشؤون الإدارية» ثم «إدارة التوظيف» ثم «إدارة شؤون الموظفين» مروراً بـ «إدارة الموارد البشريّة» وصولاً إلى رأس المال الذهني Intellectual Capital.
تكاد لا تخلو الأدبيات الحديثة حول إدارة الأعمال وتكنولوجيا الإنتاج والتنظيم المؤسسي من مصطلح الموارد البشريّة. يعتبرها الكثيرون أنّها أهمّ أصل (Asset) من أصول الشركات والمؤسسات، ويسّميها آخرون بالرأسمال الذهني Intellectual Capital. كما نقع على تعابير كاستثمار الرأسمال البشري مقابل الرأسمال المالي أو الطبيعي أو الاجتماعي. ولكن السؤال:
هل البشر فعلاً موارد إسوةً بالموارد الطبيعية أو المالية؟ وهل يجوز استهلاكُهم أو إهلاكُهم؟ هل يمكن تبديلهم كقطع الغيار مثلاً؟ أين مفاهيم البهجة والترحاب والولاء والشرف الوظيفي، وغيرها من المفردات التي ندعو إليها في أدبيات إدارة الموارد البشريّة؟
الوسط البديهي الذي يتبادر إلى الذهن متلازماً مع الموارد البشريّة هو المنشأة الاقتصادية. فهذه الموارد هي قوة العمل الخاضعة لإدارة وتنظيم صاحب العمل أو من ينوب عنه. ومع ثورة المعلومات والاتصال، والتي قلَّصت إلى أدنى الحدود إمكانية احتكار فنّ إنتاجي أو سرّ ابتكاري، أصبحت الموارد البشريّة هي الميدان الخصب ـ وربما الوحيد ـ للاحتفاظ بالتمايز أو للتفوق على المنافسين. لا عجب إذن أن يحظى هذا الميدان بكلّ هذا الاهتمام وأن يخصَّص له نظام إداري متكامل تناط به مهام جذب الكفاءات والمواهب والاحتفاظ بها علاوةً على رفع الكفاءة والتدريب والتطوير والإحلال الوظيفي.
بدأ العديد من الباحثين والمراقبين بتوسيع دائرة المعنيين لدى استخدامهم مفهوم الموارد البشريّة، وذلك مع تداخل الحدود بين داخل المنشأة وخارجها. إذ تشير بديهيات الجودة إلى أن رضا الزبون/العميل هو الركن الأساس في قياس جودة المنتج ودقّة العمليات الملازمة بدءاً من الاستقصاء لتحديد الحاجة وصولاً إلى خدمة ما بعد البيع.
وبدأنا نلاحظ أنَّ البشر حاضرون في كلّ محطات السلسلة ومراحلها: المستهلك النهائي، والموزع والمروّج، الاستشاري والمصمم، إلخ. لم يَعُد كافياً إذن أن ندير الموارد البشريّة ضمن المنشأة، بل علينا العمل على إرضاء البشر المعنيين حيثما كانوا.
تدفعنا هذه الملاحظات ـ وهناك غيرها طبعاً ـ إلى التساؤل عمّا إذا كانت الموارد البشريّة مجرّد موارد، وعن مدى صوابية مكانتها مع بقية الموارد. استذكرت خواص الطاقة، فإذا هي المسؤولة عن تحويل الأشياء وتشكيلها، وهي علّة تحريك العجلة نحو الأمام (أو نحو الخلف أحياناً). ولو اقتبسنا شيئاً من قوانين الثرموديناميك نلاحظ أيضاً أنّ الطاقة لا تفنى، بل تتحوّل من شكل إلى آخر. كلّ خصائص الطاقات هذه هي من خصائص الإنسان أيضاً. هذا الكائن الذي اصطفاه الله بالإبداع والتأمُّل، والذي أعمل طاقاته في تطويع الأشكال والأحجام والمسافات، ـ بل والزمان ـ نرى مفكّرته زاخرةً بمواعيد التغيّير والتحولات.
ولو حاولنا توصيف ماهية الإنسان وما يفعله، نلاحظ أنّه يتواصل ويتعاطف ويتألم ويسامح ويثق ويؤمن ويتعاون ويحبّ ويقرر ويأمل وينجز. وقبل كلّ هذا وذاك، الإنسان يتعلّم. كلّ الناس لديهم مثل هذه القدرات، وإن بدرجات متفاوتة. ولكن بفضل قابلية التعلّم، يمكن لأحدهم أن يشحذ هذه القدرة أو تلك، فيكون إنساناً حالماً أو مؤمناً أو واثقاً أو قائداً، إلخ.
قدرتنا على التعلّم تسمح لنا باكتساب المعرفة، ننقل معارفنا من المجرّد إلى الواقع المعاش فإذا هي مهارة، نتمايز فيما نحن فاعلون، فإذا الكائن صنيع منجزاته وأفعاله.
بناءً على ما تقدّم، أدعوكم إلى اصطلاح «الطاقات البشريّة» أو «القدرات البشريّة» واختبار مدى ملاءمتهما لما نحن بصدده.

الإنسان وقدرة اختراع الغد
حدث يوماً ما أن استطاع الإنسان استدعاء خبرة معينة، معلومة استحثت معلومة وهكذا أشعلت الشرارة طاقة الفكر، وبدأ الحاضر يتغذّى على الماضي. لا ندري منذ كمّ من السنين حدثت تلك الطفرة. يفوقها أهمية أنّ الإنسان وصف ما حدث معه، عبّر عنه واختزنه ونقله إلى إنسان آخر. كان ثمّة لغة تواصل معينة نشأ عنها أول اجتماع بشري، وتستمر الحكاية.
حكاية التذكر والتواصل، حكاية التعلّم، الانعتاق من محدّدات اللحظة الراهنة باستدعاء خبرات الماضي، أتاح تصوّر خبرات لم تقع، أتاح بناء سيناريوهات ذهنية، أي اختراع المستقبل… في الذهن أولاً ثم على أرض الواقع. وكانت لذَّة الإنجاز. هكذا بدأت كلّ الإنجازات البشريّة وهكذا استمرّت، تصورات في الذهن تحوّلت إلى إنجازات على أرض الواقع. تتمحور الإدارة العصرية حول قدرات التعلّم والتخطيط والإنجاز والمتابعة، مع ملاحظة أنّ الإطار الناظم والمؤثر هو إطار متغيّر لا يشبه ماضيه مستقبله، إلا أنّه لا ينفيه ولا يجافيه بل يبنى عليه.
أشير في سياق الحديث عن الغد المرتجى إلى أنّنا أهملنا في غمرة الإنشغال بجودة المنتجات والبضائع، نوعية الحياة وجودتها. أي ربط الحياة بالمغزى الكلّي، والارتقاء بالوجود الإنساني نحو غايته الأسمى. يقضي الإنسان ثلث عمره الإنتاجي في المكتب (أو المعمل أو الحقل). رويداً رويداً، يتحوّل الحاسوب والتقارير واللوائح من مجرد أدوات إلى شركاء عاملين يكاد الموظف أن يقضي سحابة النهار مع هؤلاء الشركاء دون غيرهم، في حين يتحوّل الناس الآخرون، كلّ الآخرين، إلى أرقام في لوائح المستهلكين أو لوائح العمال، أو غيرهم.
إنّ قدرة الإنسان على اختراع الغد تلزمنا أن نوضح مفهوم «بناء القدرات» وتمييزه عن مفهوم «التدريب» نظراً لتناسق الأول مع «الطاقة الإنسانية» وتلازم الثاني مع «الموارد البشريّة». لذلك إنّ بناء القدرات يعني توفير العناصر التي تتيح لمشروع أو برنامج أو وطن، تتيح الفعالية والمرونة في التفاعل الإيجابي مع حاجات الناس السريعة التغيُّر. بينما يعني تطوير البُنية التحتية لبلد ما بناء القدرات الإقتصادية للمجتمع لأنّه يزيد من قدرة هذا المجتمع على تحسين التجارة وفرص العمل والنمو الاقتصادي وبالتالي نوعية الحياة، في حين أنّ القدرة المؤسسية Institutional Capacity هي المؤشر الحقيقي لمدى متانة/أو هشاشة البنية التحتية.
لبنان :الإنسان والغد(1)
مستودع ثروة لبنان هو طاقاته البشريّة (الشبابية تحديداً). مستودع المال المهاجر (وجزئياً المال العربي) هو القطاع المصرفي اللبناني. هل الأوعية الواصلة بين المستودعين متّصلة فعلاً؟ هل تؤهِّل الجامعات اللبنانية الطاقات البشريّة المناسبة لإدارة المال العربي؟ وهل تُضيف المصارف اللبنانية على الإقتصاد الوطني قيمة توازي حجم الأموال التي تستحوذ عليها؟
بعض الأرقام: يفيد تقرير لمنظمة العمل الدولية إلى أنّ ثلثي سكان لبنان قادرون على العمل، وإلى أنّ الثلث فقط يعملون (حوالى 3‚1 مليون) يضاف إليهم قرابة المليون عامل أجنبي، وهي أرقام قريبة من دراسة أحوال المعيشة والتي ذكرت أن 40% من عمر 15 سنة وما فوق، هي نسبة العاملين من مجمل السكان المقيمين من نفس الفئة العمرية مع فجوة لافتة بين الجنسين.
حيث أنّ نسبة العاملين عند الذكور هي 66% ولا تتعدّى عند الإناث %1 من جانب آخر، تؤدي الإختلالات المناطقية إلى موجات نزوح داخلي تمهيداً للهجرة نحو الخارج. كما يرسل المهاجرون ما يكاد يصل إلى ٧ مليار دولار سنوياً ،أي ما يقارب ٢٢% من الناتج المحلّي.
بالعودة إلى القطاع المصرفي وحسب بيانات نشرة مصارف لبنان (عدد نيسان 2010) وصل عدد العمالة المصرفية إلى نحو 20 ألف موظف، يحمل 76% منهم شهادات جامعية، وتصل نسبة الإناث بينهم إلى 54%. علماً بأنّ 49% من العاملين في القطاع يعملون في المصارف التجارية اللبنانية و4% في فروع مصارف أجنبية و2% فقط في مصارف الأعمال. نصيب القطاع المصرفي من الناتج المحلّي الإجمالي هو 8‚4% وهو الثالث بعد التجارة ((9,4% والنقل والإتصالات (6,9%) أي أنّ نصيب الموظف الواحد في القطاع المصرفي يعادل نصيب ثلاثة موظفين من العاملين في بقيّة القطاعات. وهذا معناه أنّ أي استثمار في تحسين القدرات البشريّة المصرفية سيكون تأثيره مضاعفاً amplified على الناتج المحلّي الإجمالي.
بالتأمّل في المعطيات المبيّنة، ورغم التحسّن المطّرد في نِسب النمو، وانخفاض نسبة الدَّين العام إلى الناتج المحلّي 148% بعد أن كا ن180% غام 2006ورغم الإجتياز السلس للأزمة المالية العالمية والتي دفعت بالكثير من دول العالم إلى البحث في إمكانية الإستفادة من الأداء اللبناني، كما ثبتت موقع لبنان كملاذ للثروات من أبناء دول الجوار ومن المهاجرين… رغم كلِّ المؤشرات الإيجابية، هناك مضاعفات عميقة واختلالات بنيوية لا بدّ من مواجهتها، سيّما وأنّها أمور تتصل إمّا بالقطاع المصرفي أو بالقدرات البشريّة.
مؤشرات مهمة
إنّ ترتيب لبنان حسب دليل البيئة المؤاتية للنمو(2) جاء 140 على 179 دولة. وهو الدليل المركب من 31 مؤشراً مصنّفة ضمن فئات رئيسة هي الإستقرار الإقتصادي الكلّي (التضخم، العجز، والمديونية الخارجية قياساً بالناتج المحلّي)؛ شروط الإقتصاد الكلّي (معدّلات الإستثمار، الإنفتاح الإقتصادي)؛ الرأسمال البشري (توقع الحياة عند الولادة، مستوى التعليم)؛ الإمكانيات التكنولوجية (نسبة انتشار الكمبيوتر الشخصي واستخدامات الانترنت والهاتف المحمول؛ والظروف السياسية (كالإستقرار السياسي، سيادة القانون، والفساد). مقابل هذا التصنيف المتدنّي لا بدّ للمراقب من التنويه بأنّ جاذبية لبنان لرؤوس الأموال والأداء المالي العام مثيران للإعتزاز والأمل. الإعتزاز لأنّ لبنان لا يسجّل قط أيّة حالة إخفاق في الوفاء بالتزاماته المالية ولأنّه يحظى بثقة المانحين ولديه احتياطي مريح من السيولة والأمل لأنّ كلّ المؤشرات الضعيفة المبينة أعلاه قابلة للتحسين متى توفرت الإرادة والإدارة.
المراجع:
(1) الأرقام الواردة فيما يلي هي بالإجمال تقديرات مستندة إلى عدّة مصادر.
(2) .Growth Environment Scores developed by Global Investment Bank Goldman Sachs